فصل: قال البقاعي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ} في {وَرَبُّكَ} أرْبَعَةُ أوجه:
أحدها: أنَّه مرفوع عَطْفًا على الفاعِل المُسْتَتِر في {اذْهَبْ}، وجازَ ذلِك للتَّأكِيد بالضَّمِير.
الثاني: أنَّه مَرفوع بِفَعْل مَحْذُوف، أي: ولْيَذْهَبْ رَبُّكَ، ويكون من عَطْفِ الجُمَل، وقد تقدَّم لي نَقْلُ هذا القَوْل والرَّدُّ عليه، ومُخَالَفَتُهُ لنَصِّ سِيبَويْه عند قَوْلِهِ تعالى: {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} [البقرة: 35].
الثالث: أنَّهُ مُبْتَدأ، والخبَرُ محذُوفٌ، و«الواوُ» لِلْحَال.
الرابع: أنَّ «الواوَ» لِلْعَطْفِ، وما بَعْدَها مُبْتَدَأ محذوفٌ والخَبَرُ- أيضًا- ولا مَحَلَّ لهذه الجُمْلَة من الإعْرَاب لِكَوْنِها دُعَاءً، والتَّقْدِير: وَرَبُّكَ يُعِينُكَ.
قوله: {هَاهُنَا قَاعِدُونَ} «هُنَا» وَحْدَه الظَّرْفُ المَكَانِي الَّذِي لا يَنْصَرِفُ إلا بِجَرِّه؛ بـ «مِنْ» و«إلَى»، و«هَا» قَبْلَهُ للتَّنْبِيه كسَائِرِ أسْمَاء الإشارة وعامله {قَاعِدُون}، وقد أجيز أن يكُون خَبَر «إنَّ» و{قاعدُون} خَبر ثانٍ، وهُو بَعِيدٌ.
وفي غير القُرْآن إذا اجْتَمَع ظَرْفٌ يَصِحُّ الإخْبَارُ بِهِ مع وَصْفٍ آخَر، ويَجُوزُ أن يُجْعَل الظَّرْفُ خَبَرًا، والوَصْفُ حالًا، وأن يَكُون الخَبَرُ الوَصْفَ، والظَّرْف مَنْصُوبٌ به كَهَذِه الآية. اهـ.

.تفسير الآية رقم (25):

قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

{قال} لما أيس منهم معرضًا عنهم شاكيًا إلى الله تعالى: {رب} أي أيها المحسن إليّ.
ولما كان من حق الرسول أن يقيه كل أحد بنفسه وولده فكيف بما دون ذلك، فكان لا يصدق أحد أن أتباعه لا يطيعونه، جرى على طبع البشر وإن كان يخاطب علام الغيوب قال مؤكدًا: {إني} ولما فهم من أمر الرجلين لهم بالدخول أنهما قيّدا دخولهما بدخول الجماعة، خص في قوله: {لا أملك إلا نفسي وأخي} أي ونحن مطيعان لما تأمر به {فافرق بيننا} أي أنا وأخي {وبين القوم الفاسقين} أي الخارجين عن الطاعة قولًا وفعلًا، ولا تجمعنا معهم في بين واحد، في فعل ولا جزاء. اهـ.

.قال الفخر:

إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه لما سمع منهم هذا الكلام {قَالَ رَبّ إِنّى لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى} ذكر الزجاج في إعراب قوله: {وَأَخِى} وجهين: الرفع والنصب، أما الرفع فمن وجهين: أحدهما: أن يكون نسقًا على موضع {إِنّى} والمعنى أنا لا أملك إلا نفسي، وأخي كذلك ومثله قوله: {أَنَّ الله بَرِىء مّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] والثاني: أن يكون عطفًا على الضمير في {أَمْلِكُ} وهو «أنا» والمعنى: لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا، وأما النصب فمن وجهين: أحدهما أن يكون نسقًا على الياء، والتقدير: إني وأخي لا نملك إلا أنفسنا، والثاني: أن يكون {أَخِى} معطوفًا على {نَفْسِى} فيكون المعنى لا أملك إلا نفسي، ولا أملك إلا أخي، لأن أخاه إذا كان مطيعًا له فهو مالك طاعته.
فإن قيل: لم قال لا أملك إلا نفسي وأخي، وكان معه الرجلان المذكوران؟
قلنا: كأنه لم يثق بهما كل الوثوق لما رأى من إطباق الأكثرين على التمرد، وأيضًا لعلّه إنما قال ذلك تقليلًا لمن يوافقه، وأيضًا يجوز أن يكون المراد بالأخ من يواخيه في الدين، وعلى هذا التقدير فكانا داخلين في قوله: {وَأَخِى}.
ثم قال: {فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين} يعني فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق وتحكم عليهم بما يستحقون، وهو في معنى الدعاء عليهم، ويحتمل أن يكون المراد خلصنا من صحبتهم، وهو كقوله: {وَنَجّنِى مِنَ القوم الظالمين} [القصص: 21]. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال القرطبي:

{فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين} يُقال: بأي وجه سأله الفرق بينه وبين هؤلاء القوم؟ ففيه أجوبة؛ الأوّل بما يدل على بعدهم عن الحق، وذهابهم عن الصواب فيما ارتكبوا من العصيان؛ ولذلك ألقوا في التّيه.
الثاني بطلب التمييز أي ميزنا عن جماعتهم وجملتهم ولا تلحقنا بهم في العقاب، وقيل المعنى: فاقضِ بيننا وبينهم بعصمتك إيانا من العصيان الذي ابتليتهم به؛ ومنه قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] أي يقضى.
وقد فعل لما أماتهم في التّيه.
وقيل: إنما أراد في الآخرة، أي اجعلنا في الجنة ولا تجعلنا معهم في النار؛ والشاهد على الفرق الذي يدل على المباعدة في الأحوال قول الشاعر:
يا ربِّ فافرق بينه وبيني ** أشدّ ما فَرَّقتَ بين اثنين

وروى ابن عُيَيْنة عن عمرو بن دِينار عن عبيد بن عمير أنه قرأ: {فافرق} بكسر الراء. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي} لما عصوا أمر الله وتمردوا على موسى وسمع منهم ما سمع من كلمة الكفر وسوء الأدب مع الله ولم يبق معه من يثق به إلا هارون قال ذلك، وهذا من الكلام المنطوي صاحبه على الالتجاء إلى الله والشكوى إليه، ورقة القلب التي تستجلب الرّحمة وتستنزل النصرة ونحوه قول يعقوب: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} وعن علي أنه كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال المنافقين فما أجابه إلا رجلان، فتنفس الصعداء ودعا لهما وقال: أين تتبعان مما أريد؟ والظاهر إنّ وأخي معطوف على نفسي، ويحتمل أن يكون وأخي مرفوعًا بالابتداء، والخبر محذوف لدلالة ما قبله عليه أي: وأخي لا يملك إلا نفسه، فيكون قد عطف جملة غير مؤكدة على جملة مؤكدة، أو منصوبًا عطفًا على اسم إنّ أي: وإن أخي لا يملك إلا نفسه، والخبر محذوف، ويكون قد عطف الاسم والخبر على الخبر نحو: إن زيدًا قائم وعمرًا شاخص، أي: وإنّ عمرًا شاخص.
وأجاز ابن عطية والزمخشري أن يكون وأخي مرفوعًا عطفًا على الضمير المستكن في أملك، وأجاز ذلك للفصل بينهما بالمفعول المحصور.
ويلزم من ذلك أنّ موسى وهارون عليهما السلام لا يملكان إلا نفس موسى فقط، وليس المعنى على ذلك، بل الظاهر أنّ موسى يملك أمر نفسه وأمر أخيه فقط.
وجوز أيضًا أن يكون مجرورًا معطوفًا على ياء المتكلم في نفسي، وهو ضعيف على رأي البصريين.
وكأنه في هذا الحصر لم يثق بالرجلين اللذين قالا: ادخلوا عليهم الباب، ولم يطمئن إلى ثباتهما لما عاين من أحوال قومه وتلونهم مع طول الصحبة، فلم يذكر إلا النبي المعصوم الذي لا شبهة في ثباته.
قيل: أو قال ذلك على سبيل الضجر عندما سمع منهم تعليلًا لمن يوافقه، أو أراد بقوله: وأخي، من يوافقني في الدين لا هارون خاصة.
وقرأ الحسن: إلا نفسي وأخي بفتح الياء فيهما.
{فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} ظاهره أنه دعا بأن يفرق الله بينهما وبينهم بأن يفقد وجوههم ولا يشاهد صورهم إذا كانوا عاصين له مخالفين أمر الله تعالى، ولذلك نبه على العلة الموجبة للتفرقة بينهم وبين الفسق فالمطيع لا يريد صحبة الفاسق ولا يؤثرها لئلا يصيبه بالصحبة ما يصيبه، {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} {أنهلك وفينا الصالحون} وقبل الله دعاءه فلم يكونا معهم في التيه، بل فرق بينه وبينهم، لأن التيه كان عقابًا خص به الفاسقون العاصون.
وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما: المعنى فافصل بيننا بحكم يزيل هذا الاختلاف ويلمّ الشعث.
وقيل: المعنى فافرق بيننا وبينهم في الآخرة حتى تكون منزلة المطيع مفارقة لمنزلة العاصي الفاسق.
وقال الزمخشري: فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق، وعليهم بما يستحقون، وهو في معنى الدعاء عليهم، ولذلك وصل به قوله: فإنها محرمة عليهم، على وجه التشبيه.
وقرأ عبيد بن عمير ويوسف بن داود: فافرِق بكسر الراء وقال الراجز:
يا رب فافرق بينه وبيني ** أشدّ ما فرّقت بين اثنين

وقرأ ابن السميفع: ففرق.
والفاسقون هنا قال ابن عباس: العاصون.
وقال ابن زيد: الكاذبون.
وقال أبو عبيد: الكافرون. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالَ} موسى عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من العناد على طريق البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى مع رقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة.
فليس القصد إلى الإخبار وكذا كل خبر يخاطب به علام الغيوب يقصد به معنى سوى إفادة الحكم أو لازمه، فليس قوله ردًا لما أمر الله تعالى به ولا اعتذارًا عن عدم الدخول {رَبّ إِنّى لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى} هارون عليه السلام وهو عطف على {نَفْسِى} أي لا يجيبني إلى طاعتك ويوافقني على تنفيذ أمرك سوى نفسي وأخي ولم يذكر الرجلين اللذين أنعم الله تعالى عليهما وإن كانا يوافقانه إذا دعا لما رأى من تلون القوم وتقلب آرائهم فكأنه لم يثق بهما ولم يعتمد عليهما.
وقيل: ليس القصد إلى القصر بل إلى بيان قلة من يوافقه تشبيهًا لحاله بحال من لا يملك إلا نفسه وأخاه، وجوز أن يراد بأخي من يؤاخيني في الدين فيدخلان فيه ولا يتم إلا بالتأويل بكل مؤاخ له في الدين، أو بجنس الأخ وفيه بعد، ويجوز في {أَخِى} وجوهًا أخر من الإعراب: الأول: أنه منصوب بالعطف على اسم إن، الثاني: أنه مرفوع بالعطف على فاعل {أَمْلِكُ} للفصل، الثالث: أنه مبتدأ خبره محذوف، الرابع: أنه معطوف على محل اسم إن البعيد لأنه بعد استكمال الخبر، والجمهور على جوازه حينئذ، الخامس: أنه مجرور بالعطف على الضمير المجرور على رأي الكوفيين، ثم لا يلزم على بعض الوجوه الاتحاد في المفعول بل يقدر للمعطوف مفعول آخر أي وأخي إلا نفسه، فلا يرد ما قيل: إنه يلزم من عطفه على اسم إن أو فاعل {أَمْلِكُ} أن موسى وهارون عليهما السلام لا يملكان إلا نفس موسى عليه السلام فقط، وليس المعنى على ذلك كما لا يخفى، وليس من عطف الجمل بتقدير ولا يملك أخي إلا نفسه كما توهم، وتحقيقه أن العطف على معمول الفعل لا يقتضي إلا المشاركة في مدلول ذلك.
ومفهومه الكلي لا الشخص المعين بمتعلقاته المخصوصة فإن ذلك إلى القرائن.
{فافرق بَيْنَنَا} يريد نفسه وأخاه عليهما الصلاة والسلام، والفاء لترتيب الفرق والدعاء به على ما قبله، وقرئ {فافرق} بكسر الراء {وَبَيْنَ القوم الفاسقين} أي الخارجين عن طاعتك بأن تحكم لنا بما نستحقه، وعليهم بما يستحقونه كما هو المروي عن ابن عباس والضحاك رضي الله تعالى عنهم، وقال الجبائي: سأل عليه السلام ربه أن يفرق بالتبعيد في الآخرة بأن يجعله وأخاه في الجنة ويجعلهم في النار، وإلى الأول ذهب أكثر المفسرين، ويرجحه تعقيب الدعاء بقوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا} فإن الفاء فيه لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الدعاء فكان ذلك إثر الدعاء ونوع من المدعو به. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ومعنى {افرق بيننا وبين القوم الفاسقين} أن لا تؤاخذنا بجرمهم، لأنّه خشي أن يصيبهم عذاب في الدنيا فيهلك الجميع فطلب النّجاة، ولا يصحّ أن يريد الفرق بينهم في الآخرة؛ لأنّه معلوم أنّ الله لا يؤاخذ البريء بذنب المجرم، ولأنّ براءة موسى وأخيه من الرضا بما فعله قومهم أمر يعلمه الله، ويجوز أن يراد بالفرق بينهم الحكم بينهم وإيقاف الضّالين على غلطهم. اهـ.